فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إذا عرفت هذا فنقول إن إبليس لما ذكر هذا القياس الفاسد قال تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}.
واعلم أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللًا بذلك الوصف وههنا الحكم بكونه رجيمًا ورد عقيب ما حكى عنه أنه خصص النص بالقياس، فهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس يوجب هذا الحكم، وقوله: {مِنْهَا} أي من الجنة أو من السموات والرجيم المرجوم وفيه قولان:
القول الأول: أنه مجاز عن الطرد، لأن الظاهر أن من طرد فقد يرمى بالحجارة وهو الرجم فلما كان الرجم من لوازم الطرد جعل الرجم كناية عن الطرد فإن قالوا الطرد هو اللعن فلو حملنا قوله: {رَّجِيمٍ} على الطرد لكان قوله بعد ذلك: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى} تكرارًا والجواب من وجهين الأول: أنا نحمل الرجم على الطرد من الجنة أو من السموات ونحمل اللعن على الطرد من رحمة الله والثاني: أنا نحمل الرجم على الطرد ونحمل قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إلى يَوْمِ الدين} على أن ذلك الطرد يمتد إلى آخر القيامة فيكون هذا فائدة زائدة ولا يكون تكريرًا.
والقول الثاني: في تفسير الرجيم أن نحمله على الحقيقة وهو كون الشياطين مرجومين بالشهب، والله أعلم.
فإن قيل كلمة إلى لانتهاء الغاية فقوله: {إلى يَوْمِ الدين} يقتضي انقطاع تلك اللعنة عند مجيء يوم الدين، أجاب صاحب الكشاف بأن اللعنة باقية عليه في الدنيا فإذا جاء يوم القيامة جعل مع اللعنة أنواع من العذاب تصير اللعنة مع حضورها منسية.
واعلم أن إبليس لما صار ملعونًا قال: {فَأَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} قيل إنما طلب الإنظار إلى يوم يبعثون لأجل أن يتخلص من الموت لأنه إذا نظر إلى يوم البعث لم يمت قبل يوم البعث وعند مجيء يوم البعث لا يموت أيضًا فحينئذ يتخلص من الموت فقال تعالى: {إِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} ومعناه إنك من المنظرين إلى يوم يعلمه الله ولا يعلمه أحد سواه، فقال إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ} وهو قسم بعزة الله وسلطانه {لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} فههنا أضاف الإغواء إلى نفسه وهو على مذهب القدر وقال مرة أخرى: {رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى} فأضاف الإغواء إلى الله على ما هو مذهب الجبر وهذا يدل على أنه متحير في هذه المسألة.
وأما قوله: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} ففيه فوائد:
الفائدة الأولى: قيل غرض إبليس من ذكره هذا الاستثناء أن لا يقع في كلامه الكذب لأنه لو لم يذكر هذا الاستثناء وادعى أنه يغوي الكل لكان يظهر كذبه حين يعجز عن إغواء عباد الله الصالحين، فكأن إبليس قال: إنما ذكرت هذا الاستثناء لئلا يقع الكذب في هذا الكلام، وعن هذا يقال إن الكذب شيء يستنكف منه إبليس فكيف يليق بالمسلم الإقدام عليه؟ فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أُلْقِىَ الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] قلنا إن إبليس لم يقل إني لم أقصد إغواء عباد الله الصالحين بل قال لأغوينهم وهو وإن كان يقصد الإغواء إلا أنه لا يغويهم.
الفائدة الثانية: هذه الآية تدل على أن إبليس لا يغوي عباد الله المخلصين، وقال تعالى في صفة يوسف: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} [يوسف: 24] فنصل من مجموع هاتين الآيتين أن إبليس ما أغوى يوسف عليه السلام، وذلك يدل على كذب الحشوية فيما ينسبون إلى يوسف عليه السلام من القبائح. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ} {إِذْ} من صلة {يَخْتَصِمُونَ} المعنى؛ ما كان لي من علم بالملإ الأعلى حين يختصمون حين {قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ}.
وقيل: {إِذْ قَالَ} بدل من {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} و{يَخْتَصِمُونَ} يتعلق بمحذوف؛ لأن المعنى ما كان لي من علم بكلام الملإ الأعلى وقت اختصامهم.
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} إذَا تردّ الماضي إلى المستقبل؛ لأنها تشبه حروف الشرط وجوابها كجوابه؛ أي خلقته.
{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} أي من الروح الذي أملكه ولا يملكه غيري.
فهذا معنى الإضافة، وقد مضى هذا المعنى مجوّدًا في النساء في قوله في عيسى {وَرُوحٌ مِّنْهُ} [النساء: 171].
{فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} نصب على الحال.
وهذا سجود تحية لا سجود عبادة.
وقد مضى في البقرة {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} أي امتثلوا الأمر وسجدوا له خضوعًا له وتعظيمًا لله بتعظيمه {إِلاَّ إِبْلِيسَ} أنف من السجود له جهلًا بأن السجود له طاعة لله، والأنفة من طاعة الله استكبارًا كفر، ولذلك كان من الكافرين باستكباره عن أمر الله تعالى.
وقد مضى الكلام في هذا في البقرة مستوفى.
قوله تعالى: {قَالَ يا إبليس مَا مَنَعَكَ} أي صرفك وصدّك {أَن تَسْجُدَ} أي عن أن تسجد {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} أضاف خلقه إلى نفسه تكريمًا له، وإن كان خالق كل شيء وهذا كما أضاف إلى نفسه الروح والبيت والناقة والمساجد؛ فخاطب الناس بما يعرفونه في تعاملهم، فإن الرئيس من المخلوقين لا يباشر شيئًا بيده إلا على سبيل الإعظام والتكرم، فذِكْر اليد هنا بمعنى هذا.
قال مجاهد: اليد هاهنا بمعنى التأكيد والصلة؛ مجازه لما خلقت أنا كقوله: {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] أي يبقى ربك.
وقيل: التشبيه في اليد في خلق الله تعالى دليل على أنه ليس بمعنى النعمة والقوة والقدرة؛ وإنما هما صفتان من صفات ذاته تعالى.
وقيل: أراد باليد القدرة، يقال: ما لي بهذا الأمر يد.
وما لي بالحِمْل الثقيلِ يَدَانِ.
ويدل عليه أن الخلق لا يقع إلا بالقدرة بالإجماع.
وقال الشاعر:
تَحمَّلْت مِنْ عَفْرَاءَ ما ليس لِي بِه ** ولا للجِبَالِ الرّاسِياتِ يَدَانِ

وقيل: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} لما خلقت بغير واسطة.
{أَسْتَكْبَرْتَ} أي عن السجود {أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} أي المتكبرين على ربك.
وقرأ محمد بن صالح عن شبل عن ابن كثير وأهل مكة {بِيَدَيَّ اسْتَكْبَرْتَ} موصولة الألف على الخبر وتكون أم منقطعة بمعنى بل مثل: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} وشبهه.
ومن استفهم ف أم معادلة لهمزة الاستفهام وهو تقرير وتوبيخ.
أي استكبرت بنفسك حين أبيت عن السجود لآدم، أم كنت من القوم الذين يتكبرون فتكبرت لهذا.
قوله تعالى: {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ} قال الفرّاء: من العرب من يقول أنا أخير منه وأشرُّ منه؛ وهذا هو الأصل إلا أنه حذف لكثرة الاستعمال.
{خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} فَضَّل النار على الطين وهذا جهل منه؛ لأن الجواهر متجانسة فقاس فأخطأ القياس.
وقد مضى في الأعراف بيانه.
{قَالَ فاخرج مِنْهَا} يعني من الجنة {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} أي مرجوم بالكواكب والشهب {وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي} أي طردي وإبعادي من رحمتي {إلى يَوْمِ الدين} تعريف بإصراره على الكفر لأن اللعن منقطع حينئذٍ، ثم بدخوله النار يظهر تحقيق اللعن {قَالَ رَبِّ فأنظرني إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أراد الملعون ألا يموت فلم يُجَب إلى ذلك، وَأُخِّر إلى الوقت المعلوم، وهو يوم يموت الخلق فيه، فَأُخّر إليه تهاونًا به.
{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} لما طرده بسبب آدم حلف بعزة الله أنه يضل بني آدم بتزيين الشهوات وإدخال الشبه عليهم، فمعنى: {لأُغْوِيَنَّهُمْ} لأستدعينهم إلى المعاصي وقد علم أنه لا يصل إلا إلى الوسوسة، ولا يفسد إلا من كان لا يصلح لو لم يوسوسه؛ ولهذا قال: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} أي الذين أخلصتَهم لعبادتك، وعصمتهم مني.
وقد مضى في الحجر بيانه. اهـ.

.قال أبو السعود:

وقولُه تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} شروعٌ في تفصيلِ ما أجمل من الاختصامِ الذي هو ما جرى بينهم من التَّقاولِ وحيث كان تكليمُه تعالى إيَّاهم بواسطةِ المَلكِ صحَّ إسنادُ الاختصامِ إلى الملائكةِ وإذْ بدلٌ مِن إذِ الأولى وليس من ضرورة البدليَّةِ دخولُها على نفس الاختصامِ بل يكفي اشتمالُ ما في حيِّزها عليه فإنَّ القصَّة ناطقةٌ بذلك تفصيلًا، والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِه عليه الصَّلاة والسَّلام لتشريفِه والإيذانِ بأنَّ وحيَ هذا النبأ إليه تربيةٌ وتأييدٌ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. والكافُ واردٌ باعتبارِ حالِ الآمرِ لكونِه أدلَّ على كونِه وحيًا منزَّلًا من عنده تعالى كما في قوله تعالى: {قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} الخ دون حالِ المأمورِ وإلا لقيل: ربِّي لأنَّه داخلٌ في حيِّز الأمر.
{إِنّى خالق} أي فيما سيأتي وفيه ما ليسَ في صيغة المضارعِ من الدِّلالةِ على أنَّه تعالى فاعل له ألبتةَ من غير صارفٍ يلويه ولا عاطفٍ يثنيه {بَشَرًا} قيل: أي جسمًا كثيفًا يلاقى ويُباشر. وقيل: خَلْقًا بادي البشرةِ بلا صوفٍ ولا شعرٍ، ولعل ما جرى عند وقوع المحكيِّ ليس هذا الاسم الذي لم يُخلق مسمَّاهُ حينئذٍ فضلًا عن تسميتِه به بل عبارةٌ كاشفةٌ عن حالِه وإنما عبر عنه بهذا الاسمِ عند الحكايةِ {مِن طِينٍ} لم يتعرَّضْ لأوصافِه من التَّغيرِ والاسودادِ والمسنونيَّةِ اكتفاءً بما ذُكر في مواقعَ أُخرَ.
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أي صوَّرته بالصُّورةِ الإنسانيَّةِ والخِلقةِ البشريَّةِ أو سوَّيتُ أجزاءَ بدنِه بتعديل طبائعهِ {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} النَّفخُ إجراءُ الرِّيح إلى تجويفِ جسمٍ صالحٍ لإمساكِها والامتلاءِ بها. وليس ثَّمةَ نفخٌ ولا منفوخٌ وإنَّما هو تمثيلٌ لإفاضة ما به الحياةُ بالفعل على المادَّةِ القابلة لها أي فإذا كمَّلتُ استعدادَه وأفضت عليه ما يحيى به من الرُّوحِ التي هي أمري {فَقَعُواْ لَهُ} أمرٌ من وقعَ وفيه دليلٌ على أنَّ المأمورَ به ليس مجرَّدَ الانحناءِ كما قيل أي اسقُطوا له {ساجدين} تحَّيةً له وتكريمًا.
{فَسَجَدَ الملائكة} أي فخلقه فسوَّاه فنفخ فيه الرُّوحَ فسجد له الملائكةُ {كُلُّهُمْ} بحيث لم يبقَ منهم أحدٌ إلاَّ سجدَ {أَجْمَعُونَ} أي بطريقِ المعيةِ بحيثُ لم يتأخَّر في ذلك أحدٌ منهم عن أحدٍ، ولا اختصاص لإفادة هذا المعنى بالحالية بل يفيدُه التَّأكيدُ أيضًا وقيل أُكِّد بتأكيدينِ مبالغةً في التَّعميمِ. هذا وأمَّا أنَّ سجودَهم هذا هل ترتَّبَ على ما حُكي من الأمر التَّعليقيِّ كما تقتضيهِ هذه الآيةُ الكريمةُ والتي في سُورة الحجرِ فإنَّ ظاهرَهُما يستدعِي ترتُّبه عليه من غيرِ أنْ يتوسَّط بينهما شيءٌ غير ما يفصح عنه الفاءُ الفصيحةٌ من الخلق والتَّسويةِ ونفخ الرُّوحِ أو على الأمرِ التَّنجيزيِّ كما يقتضيه ما في سُورة البقرةِ وما في سُورةِ الأعرافِ وما في سُورة بني إسرائيلَ وما في سُورةِ الكهفِ وما في سُورة طه من الآياتِ الكريمةِ فقد مرَّ تحقيقُه بتوفيقِ الله عزَّ وجلَّ في سُورةِ البقرةِ وسُورة الأعرافِ {إِلاَّ إِبْلِيسَ} استثناءٌ متَّصل لما أنه كانَ جنِّيًا مفرَدًا مغمورًا بألوفٍ من الملائكةِ موصُوفًا بصفاتِهم فغلبُوا عليه ثمَّ استُثنَى استثناءَ واحدٍ منُهم أو لأنَّ من الملائكةِ جنسًا يتوالدُون وهو منُهم أو منقطعٌ. وقولُه تعالى: {استكبر} على الأوَّلِ استئنافٌ مبينٌ لكيفيَّةِ تركِ السّجودِ المفهومِ من الاستثناءِ فإنَّ تركَه يحتملُ أن يكونَ للتَّامُّل والتروِّي وبه بتحقَّقُ أنَّه للإباءِ والاستكبارِ. وعلى الثَّاني يجوزُ اتِّصالُه بما قبله أي لكنْ إبليسُ استكبرَ {وَكَانَ مِنَ الكافرين} أي وصارَ منهم بمخالفتِه للأمرِ واستكبارِه عن الطَّاعةِ أو كان منهم في علمِ الله تعالى عزَّ وجلَّ {قَالَ يا إِبْلِيسَ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} أَي خلقتُه بالذَّاتِ من غير توسُّطِ أبٍ وأمَ والتَّثنيةُ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بخلقِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ المستدعِي لإجلالِه وإعظامِه قَصْدًا إلى تأكيدِ الإنكارِ وتشديدِ التَّوبيخِ.
{أَسْتَكْبَرْتَ} بهمزة الإنكارِ وطرحِ همزةِ الوصلِ أي أتكبَّرتَ من غيرِ استحقاقٍ {أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} المستحقِّين للتَّفوقِ وقيل: أستكبرتَ الآنَ أم لم تزلْ منذ كنتَ من المستكبرينَ. وقُرئ بحذفِ همزةِ الاستفهامِ ثقةً بدلالةِ أمْ عليها.
وقولُه تعالى: {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} أدِّعاءٌ منه لشيءٍ مستلزم لمنعهِ من السُّجودِ على زعمِه وإشعارٌ بأنَّه لا يليقُ أنْ يسجدَ الفاضلُ للمفضولِ كما يُعرب عنه قولُه: {لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} وقولُه تعالى: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} تعليلٌ لما ادَّعاهُ من فضلِه عليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولقد أخطأ اللَّعينُ حيث خصَّ الفضلَ بما من جهةِ المادَّةِ والعنصرِ وزلَّ عنه ما من جهة الفاعل كما أنبأَ عنه وقولُه تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} وما من جهة الصُّورة كما نبه عليه قوله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} وما من جهة الغايةِ وهو مِلاكُ الأمرِ، ولذلك أمرَ الملائكةَ بسجودِه عليهم السَّلامُ حين ظهرَ لهم أنَّه أعلمُ منهم بما يدورُ عليه من أمرِ الخلافةِ في الأرضِ وأنَّ له خواصَّ ليست لغيرِه.
{قَالَ فاخرج مِنْهَا} الفاءُ لترتيبِ الأمر على ما ظهر من اللَّعينِ من المخالفةِ للأمرِ الجليلِ وتعليلِها بالأباطيلِ أي فاخرجْ من الجنَّةِ أو من زُمرةِ الملائكةِ وهو المرادُ بالأمرِ بالهبوطِ لا الهبوطِ من السَّماءِ كما قيل فإنَّ وسوستَه لآدمَ عليه السلام كانتْ بعد هذا الطَّردِ وقد بُيِّن كيفيَّةُ وسوستِه في سُورة البقرةِ. وقيل: اخرجْ من الخلقةِ التي كنتَ فيها وانسلخْ منها فإنَّه كان يفتخرُ بخلقتِه فغيَّر الله خلقتَه فاسودَّ بعد ما كان أبيضَ وقَبُح بعد ما كان حَسَنًا وأظلمَ بعد ما كان نورانيًا وقوله تعالى: {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} تعليلٌ للأمرِ بالخروجِ أي مطرودٌ من كلِّ خيرٍ وكرامةٍ، فإنَّ مَن يُطردْ يُرجمْ بالحجارةِ أو شيطان يُرجم بالشُّهبِ {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى} أي إبعادي عن الرَّحمةِ، وتقييدها بالإضافةِ مع إطلاقِها في قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة} لما أنَّ لعنةَ اللاعنين من الملائكةِ والثَّقلينِ أيضًا من جهتِه تعالى وأنَّهم يدعُون عليه بلعنةِ الله تعالى وإبعادِه من الرَّحمةِ {إلى يَوْمِ الدين} أي يوم الجزاء والعقوبة، وفيه إيذانٌ بأنَّ اللَّعنةَ مع كمال فظاعتها ليستْ جزاءً لجنايته بل هي أُنموذجٌ لما سيلقاه مستمرًّا إلى ذلك اليومِ لكن لا على أنَّها تنقطعُ يومئذٍ كما يُوهمه ظاهرُ التَّوقيتِ بل على أنَّه سيلقى يومئذٍ من ألوان العذابِ وأفانينِ العقابِ ما ينسى عنده اللَّعنَة وتصير كالزَّائلِ ألا يرى إلى قوله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} وقوله تعالى: {وَيَلْعَنُ بَعْضُهُم بَعْضًا} {قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى} أي أمهلنِي وأخِّرني، والفاءُ متعلِّقة بمحذوفٍ ينسحبُ عليه الكلام أي إذْ جعلتني رَجيمًا فأمهلني ولا تُمتني {إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي آدمُ وذريتُه للجزاءِ بعد فنائِهم، وأرادَ بذلك أنْ يجدَ فُسحةً لإغوائِهم ويأخذَ منهم ثأرَه وينجوَ من الموتِ بالكلِّية إذ لا موتَ بعد يومِ البعثِ.
{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين} ورودُ الجوابِ بالجملةِ الاسميَّةِ مع التَّعرُّضِ لشمولِ ما سأله لآخرين على وجهٍ يُشعر بكونِ السَّائلِ تبعًا لهم في ذلك دليلٌ واضحٌ على أنَّه إخبارٌ بالإنظارِ المقدَّر لهم أزلًا، لا إنشاء لإنظارٍ خاصَ به، وقد وقعَ إجابةً لدعائِه وأنَّ استنظارَه كان طَلَبًا لتأخيرِ الموتِ إذ بهِ يتحقّقُ كونُه منهم لا لتأخيرِ العُقوبةِ كما قيل فإنَّ ذلكَ معلومٌ من إضافةِ اليَّومِ إلى الدِّينِ أي إنَّك من جُملةِ الذينَ أخِّرتْ آجالُهم أزلًا حسبما تقتضيِه حكمةُ التَّكوينِ.
{إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} الذي قدَّره الله وعيَّنه لفناءِ الخلائقِ، وهو وقتُ النَّفخةِ الأولى لا إلى وقتِ البعثِ الذي هو المسؤولُ. فالفاءُ ليستْ لربطِ نفسِ الأنظارِ بالاستنظارِ بل لربطِ الإخبارِ المذكورِ به كما في قولِ مَن قال:
فإن تَرحمْ فأنتَ لذاكَ أهلُ

فإنَّه لا إمكان لجعل الفاء فيه لربطِ ما له تعالى من الأهليَّةِ القديمةِ للرَّحمةِ الحادثةِ بل هي لربط الإخبارِ بتلك الأهليةِ للرَّحمةِ بوقوعِها، هذا وقد تُرك التَّوقيتُ في سورةِ الأعرافِ كما تُرك النِّداءُ والفاء في الاستنظار والإنظار تعويلًا على ما ذُكر هاهنا وفي سُورة الحجرِ وإنْ خطَر ببالك أنَّ كلَّ وجهٍ من وجوهِ النَّظمِ الكريمِ لابد أنْ يكونَ له مقامٌ يقتضيهِ مغاير لمقامِ غيرِه وأنَّ ما حُكي من اللَّعينِ إنَّما صدرَ عنه مرَّةً وكذا جوابُه لم يقعْ إلاَّ دفعةً فمقام الاستنظارِ والإنظارِ إنِ اقتضَى أحدَ الوجوهِ المحكيَّةِ فذلك الوجهُ هو المطابقُ لمقتَضى الحالِ والبالغُ إلى رُتبةِ البلاغةِ ودرجةِ الإعجازِ، وأمَّا ما عداهُ من الوجوهِ فهو بمعزلٍ من بلوغِ طبقةِ البلاغةِ فضلًا عن العُروجِ إلى معارجِ الإعجازِ فقد سلفَ تحقيقُه في سورةِ الأعرافِ بفضلِ الله تعالى وتوفيقِه.
{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ} الباءُ للقسمِ والفاءُ لترتيبِ مضمونِ الجملةِ على الإنظارِ ولا يُنافيه قولُه تعالى {فبما أغويتني} وقوله {ربِّ بما أغويتني} فإنَّ إغواءَهُ تعالى إيَّاهُ أثرٌ من آثارِ قُدرتِه تعالى وعزَّتِه وحكمٌ من أحكامِ قهرِه وسلطنتِه فمآلُ الإقسامِ بهما واحدٌ ولعلَّ اللَّعينَ أقسمَ بهما جميعًا فحكى تارةً قسَمه بأحدِهما وأُخرى بالآخرِ أي فأُقسم بعزَّتِك {لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} أي ذريةَ آدمَ بتزيينِ المَعَاصي لهم {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} وهم الذين أخلصَهم الله تعالى لطاعتِه وعصمَهم من الغوايةِ. وقُرئ {المخلِصين} على صيغةِ الفاعلِ أي الذينَ أخلصُوا قلوبَهم وأعمالَهم لله تعالى. اهـ.